من طرائف البخلاء في الأضاحي. ..
دخلت معاذة العنبرية على شيخ البُخلاء وقالت:
"يا إمام، أهداني ابنُ عَمٍّ لي أُضحية، وأنا امرأةٌ أرملة وليس لي قَيِّم. ولا عَهدَ لي بِتَدبيرِ لَحمِ الأضاحي. وأخاف أنْ يضيعَ بَعضُ هذه الشاة،
وقد عَلِمتُ أنَّ الله لَم يَخلقْ فيها ولا في غَيرِها شيئاً لا مَنفَعةَ فيه.
ولَستُ أخافُ مِن تَضييعِ القَليلِ إلا أنَّهُ يَجُرُّ إلى تضييعِ الكثير."
قال شيخ البخلاء: "أكملي ما عندك."
قالت: "أمَا القَرنُ، فرأيت أنْ يُجعَلَ كالخَطافِ ويُسمَّرَ في السقفِ فَتُعَلَّقُ عليه الزبل (السلة) والكيران وكلُّ ما يُخيفُ الفأر والنمل وبنات وردان (الصراصير) وغير ذلك.
وأما المُصران فإنه لأوتار المِندَفة، وبِنا إلى ذلك أعظمُ الحاجة.
وأمَا قَحفُ الرأسِ (العظمُ فوقَ الدماغ) وسائر العظام فسبيلها أنْ تُكسَّر ثُمَّ تُطبَخ.
فما ارتفع مِن الدسم كان للمصباحِ وللإدامِ وللعصيدةِ ولغير ذلك.
ثُم تُؤخَذُ تلك العظام فَيُوقَدُ بها. فلَم يَرَ الناسُ وَقوداً قط أصفى ولا أحسنَ لهباً منها.
وإذا كانت كذلك فهي أسرعُ في القِدرِ لِقِلَّةِ ما يُخالِطها مِن الدُّخان.
وأمّا الإهاب فالجلد نفسه جراب، وللصوف وجوه لا تُعدُّ.
وأما الفَرثُ والبَعرُ (الفضلات أو الزبل) فَحَطبٌ إذا جُفِّفَ عَجيب."
سكت شيخ البخلاء مذهولاً بقدرتها على الاستفادة من كل شيء.
ثم قالت: "بقي الآن علينا الانتفاعُ بالدم. وقد عَلِمتُ أنَّ الله عز وجل لَم يُحَرِّمْ مِن الدمِ إلا أكلَهُ وشُربَه.
وأنّ لَه مواضع يَجوزُ فيها الانتفاع به.
وإنْ لَم أقعْ على مَوضِعَ الانتفاعِ به صارَ كَيَّةً في قلبي.
وهذا ما جئت أسألك إياه يا إمامنا."
لم يتمكن شيخ البخلاء من الكلام لما سمعه من معاذة وبُخلها.
وفجأة، رآها وقد انطلق وجهها وتَبَسَّمَتْ.
فَقال الشيخ: "ينبغي أنْ يكون قد انفتحَ لكِ بابُ الرأي في الدمِ."
قالت: "أجل، تذكرتُ أنَّ عِندي قُدوراً شاميّة جديدةً. وقد زعموا أنه لَيسَ شيءٌ أدبَغُ ولا أزيَدُ في قُوَّتِها مِن التلطيخِ بالدّم الحار الدسم.
وقد استرحتُ الآنَ إِذ وقعَ كُلُّ شَيءٍ موقِعَهُ!"
وخرجت من عنده والسعادة تغمرها.
وبعد ستة أشهر، لقي شيخ البخلاء معاذة العنبرية وقال: "كَيفَ كان قَديدُ تِلكَ الشاةِ؟ (القديد هو اللحم المجفف المحفوظ)"
قالت: "بأبي أنت يا معلمنا! لَم يجىء وَقتُ القديدِ بَعد!
لنا في الشحم والألية والجنوب والعظم المعروق وغير ذلك معاش!
ولِكُلِّ شيء إِبّان!"
نظر طلاب شيخ البخلاء إليه فوجدوه مُمتعضاً. وقال أحدهم:
"أتعلّمنا يا شيخنا؟"
قال: "كيف أعلمكم وأنا أمامها كالمسرف أمام الصالحين !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق